في كل شتاء، تستعد الجزائر لتروي للعالم واحدة من أقدم قصصها، "يناير"، رأس السنة الأمازيغية، الذي يحمل معه عبق التاريخ ورمزية الهوية. بعيدا عن كونه مجرد يوم عطلة وطنية مدفوعة الأجر، "يناير" هو احتفال يعيش في تفاصيله كل مكونات الثقافة الجزائرية، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في أجواء تعكس عمق الانتماء والافتخار بالجذور.
يقال إن قصة "يناير" بدأت منذ قرون طويلة، مع التقويم الفلاحي الذي اعتمده الأمازيغ لتنظيم حياتهم الزراعية. الأسطورة تحكي عن الملك شيشناق الذي انتصر على الفرعون رمسيس الثاني في عام 950 قبل الميلاد، وهو حدث جعل من "يناير" رمزا للانتصار والكرامة. بمرور الزمن، تحول هذا اليوم إلى احتفال بالحصاد، بالأرض، وبالحياة نفسها.
و في رواية أخرى، كانت هناك عجوز تخرج فخورة بقطيعها بعد نهاية شهر يناير، الذي جاء برده القارس وعواصفه، وتستهزئ به وهي تترقب بفارغ الصبر قدوم شهر فيفري. هذا التهكم أغضب يناير، فقرر أن يثأر منها. فأخذ يومين من شهر فيفري وأرسل عواصف وزوابع اجتاحت العجوز وقطيعها، وألحق بهم الدمار. في الأساطير القديمة، يُقال إن يناير استدان يوماً واحداً، وبذلك تحولت العجوز إلى تمثال، ومنذ ذلك الحين أصبح فيفري ناقصاً بيومين. وما زالت الجدات تردد: "يا عمي فورار، سلف لي ليلة ونهار، نقتل لعجوز فم العار".
في عام 2018، أقرّت الجزائر "يناير" عيدا وطنيا مدفوع الأجر، خطوة حملت بُعدا عميقا في الاعتراف بالثقافة الأمازيغية كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية. اليوم، و ككل سنة يتشارك الجزائريون سواءا داخل أو خارج الوطن، الاحتفال بهذا اليوم، ما يجعله رمزا للوحدة والتنوع.
في هذا العام، أخذت الاحتفالات طابعا خاصا في ولاية تيميمون، المدينة التي تسكنها أساطير الصحراء. تحت شعار "يناير.. أصالة الجزائر المنتصرة"، اجتمع السكان في قصر تطاوين حيث امتزجت الموسيقى التقليدية، مثل أهليل، بالأهازيج الشعبية.
في هذا السياق، اجتمعت النساء في سوق تقليدي يعرضن منتجات يدوية حاكتها أناملهن بصبر وإبداع. هنا، الحكايات ليست فقط في الكلمات، بل أيضًا في الألوان والخيوط. لكل قطعة حكايتها، ولكل حكاية شاهد على الهوية التي لا تموت.
أما في الجزائر العاصمة، شهدت ساحة أودان وساحة البريد المركزي يوم الجمعة 10 جانفي، الطبعة الثانية من تظاهرة "يوم الكسكس الكبير". كانت الساحة تعج بالزوار من مختلف الأعمار يتذوقون طعم الهوية في كل لقمة من الكسكس، الذي أصبح في "يناير" أكثر من مجرد طبق تقليدي بل لغة توحد بين الأجيال. حيث اجتمع الطهاة لتقديم أشكال مختلفة من هذا الطبق التقليدي. برائحة الكسكس وبهاراته، كانت الساحة تعج بالزوار، صغارا وكبارا.
في قاعات العاصمة، مثل رياض الفتح وقاعة الأطلس، كان البرنامج ثريا: عروض موسيقية، ورش لتعليم الخط الأمازيغي، ومعارض للكتب والحرف اليدوية. في مكتبة دار الأنيس بعين البنيان، كان الأطفال يتعلمون الطهي التقليدي، بينما قدمت قاعة فرانس فانون معرضا للفنون التشكيلية احتفاء بـ"يناير".
إلى جانب الإحتفالات،صرح الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية، سي الهاشمي عصاد، عن دراسة مشروع لإنشاء ملحقات للمحافظة في مختلف ولايات الجزائر بهدف تعزيز حضور اللغة الأمازيغية في جميع أنحاء البلاد. كما أشار إلى فتح خمس معاهد مختصة في اللغة الأمازيغية في عدة ولايات، بالإضافة إلى إنشاء منصات رقمية لدعم الرقمنة في مجالات الصحافة والكتاب. وأوضح أن ورشات العمل التي تم تنظيمها في ولاية تيميمون تهدف إلى دعم التحول الفلاحي والسياحي في المنطقة، مع التركيز على تراثها المعماري الفريد.
ختاما، في سياق الشراكات المستقبلية، أعلن عصاد عن برنامج توأمة بين بلدية تيميمون وبلدية آقبو بولاية بجاية لتعزيز التعاون بين الجمعيات المحلية. كما تم تدشين سوق "يناير" في تيميمون لتلبية احتياجات الحرفيين، وسيظل مفتوحًا طوال الأسبوع. وتستمر الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية الجديدة ببرنامج ثقافي وأكاديمي، يشمل ندوة حول الهوية الجزائرية، بالإضافة إلى تسليم جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة الأمازيغية.