مسرحية “كلاب لا تنبح”.. الخيانة، الانتقام، والمغفرة

في مساء الأربعاء 05 جانفي، وعبر عرض شرفي قوي أقيم في المسرح الوطني الجزائري "محيي الدين بشطارزي"، كشفت جمعية "المنارة الثقافية" قورصو النقاب عن عملها المسرحي الجديد بعنوان "كلاب لا تنبح". نص أبدعته يدي وليد عبد اللاهي، الذي جعل من الخشبة ساحة مفتوحة للبحث عن الذات والتناقضات التي تتفجر في أعماق النفس البشرية. عمل يتجاوز حدود النص المسرحي التقليدي ليغمر الحاضرين في بحر من الأسئلة الوجودية والاجتماعية، ويضع أمامهم مرآة نقدية للعلاقات الإنسانية المعقدة.
"كلاب لا تنبح" ليست مسرحية تقليدية تتبع الخطوط الدرامية المعتادة، بل هي رحلة في أعماق النفس البشرية. "وردة"، السجينة التي تجسدها الممثلة فريال مجاجي، تمثل في لحظات الصمت والوجع تجسيدا لحالة نفسية متأزمة. تائهة بين الذاكرة والماضي المظلم، تتصارع هذه الشخصية مع نفسها بعد أن قامت بقتل زوجها إثر خيانته لها مع أعز صديقاتها.
هناك، في الزنزانة الضيقة، يتنقل المتلقي بين مشاعر وردة المعذبة وبين تساؤلاتها التي تكشف عن طبيعة الإنسان، وعلاقته بما حوله، وكيف يواجه أفعاله.
لكن المسرحية لا تتوقف عند هذا الصراع النفسي، بل تتعقد الأحداث مع دخول شخصيات أخرى تتفاعل مع "وردة"، في العالم المظلم هذا. المحامي الذي يسعى لمصلحته الخاصة، السجان الذي يراقب الأحداث بصمت، والزوج الذي يعود في هيئة طيف، ليزيد الجدل حول قيم الخيانة والانتقام والمغفرة.
العمل لا يقتصر على سرد قصة امرأة ضحية، بل يعكس من خلال الرمزية عواقب الخيانة الاجتماعية والإنسانية. "كلاب لا تنبح" هو ليس فقط عنوانا للعرض، بل شعار للحالة التي تعيشها شخصيات المسرحية: تلك الكائنات التي ترى الشر وتسمعه، ولكنها لا تتحرك.
رمز "الكلاب" يشير إلى أولئك الذين يفضلون السكوت وعدم التدخل، حتى وإن كانت الأفعال أمامهم واضحة كوضوح النهار. من خلال هذا، يشير عبد اللاهي إلى فكرة الصمت الاجتماعي والتواطؤ الذي يشل حركة التغيير.
المسرحية تعكس بشكل لافت التناقض بين الحقيقة الملموسة والظاهر. ففي الزنزانة، تجد وردة نفسها سجينة ليس فقط للجدران، بل أيضا لذكرياتها المؤلمة، ولحقيقة أن ما تظهره الأعين قد يكون بعيدا عن الواقع.
مسرحية تعكس الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين الذات والآخر. تضع الشخصيات في اختبار مستمر، سواء عبر الأفعال أو حتى عبر الصمت. المحامي، السجان، ووردة جميعهم يعكسون صورة رمزية لمجتمع يعاني من التناقضات.
إن الرمزية الخاصة بالمقاومة التي تضمنها النص، والمستوحاة من القضية الفلسطينية، تضيف عمقا إنسانيا قويا للمسرحية.
الرقم "710" الذي ظهر على زي السجينة هو مجرد لمحة رمزية لارتباطها بقضية أكبر، وهي قضية المقاومة والانتفاضة الفلسطينية. كما أن الشخصيات النسائية في المسرحية تحمل دلالات اجتماعية عميقة. وردة ليست فقط ضحية للظروف، بل هي تمثل مقاومة داخلية تسعى للنجاة من الاضطهاد الذي وقع عليها في مجتمع يفتقر إلى العدالة.
المسرحية تسلط الضوء أيضا على الموروث الاجتماعي الذي يضطهد النساء في مختلف الطبقات، وتطرح إشكالية كبرى تتعلق بكيفية تعامل المجتمع مع المرأة، خاصة في حالات الضعف والهشاشة. في هذا السياق، يمكن اعتبار "وردة" كرمز للمرأة العربية التي تواجه الاضطهاد من داخل المجتمع ومن خارجه.
الخوف، الطمع، الخيانة، والانتقام كلها أبعاد تتصاعد عبر تفاعل الشخصيات، ليصبح الجمهور جزءا من القصة. "كلاب لا تنبح" هي بمثابة محاكمة إنسانية أكثر منها مسرحية، تحمل في طياتها أبعادا اجتماعية عميقة وتطرح تساؤلات مستمرة حول الضمير الجماعي والصمت الاجتماعي.