القصبة تحت الأضواء.. رحلة عبر الزمن و التراث

في قلب الجزائر العاصمة، حيث تتعانق الأزقة الضيقة مع عبق التاريخ، تقف القصبة شامخة، ليست مجرد حجارة متراصة أو ممرات متداخلة، بل روح مدينة و ذاكرة وطن. هنا، تحت ظلال المنازل العتيقة، نسجت حكايات المجد و المقاومة، و من بين جدرانها المتآكلة، انطلقت أنفاس الثورة، فاحتضنت المجاهدين، و واجهت كل محاولات الطمس و التشويه. و اليوم، تستعد القصبة للاحتفال بيومها الوطني، في تظاهرة ثقافية تمتد من 22 إلى 25 فيفري، تحت شعار "القصبة مهد الحضارات و ملتقى الفنون"، لتعيد بعث هذا الإرث الذي صمد في وجه الزمن.
تعود جذور القصبة إلى القرن العاشر الميلادي، حين أعاد "بولوغين بن زيري" بناء المدينة على أنقاض المستوطنة الفينيقية و الرومانية "إيكوسيوم"، لكنها بلغت أوج ازدهارها في العهد العثماني، حين أصبحت عاصمة سياسية و عسكرية، و أحد أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط. كانت القصبة أشبه بقلعة منيعة بأسوارها و أبراجها الدفاعية، و احتضنت قصر الداي، و قصر أحمد باي، و جامع كتشاوة الذي بقي شاهدا على التحولات التاريخية، حيث تعرض للهدم خلال الاستعمار الفرنسي قبل أن يرمم لاحقا ليظل رمزا للهوية الإسلامية للمدينة.
عندما دخل الفرنسيون الجزائر عام 1830، كانت القصبة أول من واجه قسوة المستعمر، فقد دمرت أجزاء واسعة منها، و تحولت بعض قصورها إلى ثكنات عسكرية، في محاولة لطمس روحها الجزائرية. لكن أزقتها الضيقة رفضت الانحناء، و كانت المعقل الآمن للمقاومة، إذ احتضنت الاجتماعات السرية للمجاهدين، و شهدت أشرس معارك التحرير، لتظل محفورة في الذاكرة الوطنية كرمز للصمود.
تكريما لهذا الإرث العريق، تنظم وزارة الثقافة و الفنون فعاليات اليوم الوطني للقصبة، بمشاركة مؤسسات ثقافية و جمعيات تهتم بالتراث، من بينها الديوان الوطني لتسيير الممتلكات الثقافية، المتحف العمومي للزخرفة و المنمنمات و فن الخط، و المتحف العمومي للفنون و التقاليد الشعبية.
دار الصوف، أحد معالم القصبة العريقة، ستحتضن معرضا فوتوغرافيا بعنوان "القصبة: حومة و حكاية"، يوثق الحياة اليومية داخل الأزقة العتيقة، و يبرز تفاصيل العمارة التقليدية التي تميزها، إلى جانب عرض للحرف التقليدية، حيث سيقوم الحرفيون بصنع القطع التراثية أمام الجمهور، في مشهد يعيد إحياء أصالة الحي العاصمي.
كما سينظم المتحف العمومي الوطني للزخرفة و المنمنمات و فن الخط يوما دراسيا بعنوان "تاريخ القصبة و واقعها: استدامة التراث في زمن التغيير"، بمشاركة مؤرخين و باحثين و خبراء في الترميم، لمناقشة سبل الحفاظ على هذه المدينة العريقة في مواجهة الزمن و العوامل المناخية و التغيرات الحضرية.
أما الوكالة الوطنية للقطاعات المحفوظة، فستستضيف ندوة مهنية حول تبادل الخبرات في ترميم المباني التراثية، باستخدام أساليب مبتكرة تحافظ على أصالة هذا المعلم المصنف ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ 1992.
لن يقتصر الاحتفال على المعارض و الندوات، بل سيكون للجانب الفني نصيب مهم، حيث ستحتضن القصبة عروضا مسرحية موجهة للأطفال، و حفلات موسيقية أندلسية تعيد إحياء الطابع الفني العاصمي الأصيل، إلى جانب ورشات تفاعلية حول الخط العربي، الزخرفة، و الفخار، تمنح الأطفال فرصة لاكتشاف التراث بطريقة تعليمية ممتعة.
في أزقتها التي همست بحكايات الزمن، وبين جدرانها التي احتضنت أسرار الأبطال، تعود القصبة إلى الواجهة، ليس فقط كتحفة معمارية، بل كذاكرة حية تروي قصص أمة، و كفضاء نابض بالفنون و الثقافة، يربط الماضي بالحاضر، ويؤكد أن هذا الإرث العريق لا يزال ينبض في قلوب الجزائريين.