فيلم استقصائي: كشف جديد عن استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية في الجزائر

في تحقيق استقصائي جديد يعرض على قناة "فرانس تيليفيزيون"، كشف النقاب عن أحد آخر التابوهات المرتبطة بحرب الجزائر: استخدام الجيش الفرنسي للغازات السامة على نطاق واسع بين عامي 1956 و 1962، لاستهداف المقاتلين الجزائريين الذين كانوا يختبئون في الكهوف تحت عنوان "الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة"، من إخراج المخرجة كلير بييه، و الذي برمج التلفزيون الجزائري عرضه اليوم الأربعاء 12 مارس، على الـساعة 22:30 ليلا.
و يعتمد الفيلم، الذي أخرجته الصحفية كلير بييه، على أبحاث المؤرخ كريستوف لافاي، الذي أمضى قرابة عشر سنوات في تحليل الأرشيفات الفرنسية و استجواب شهود من الجنود الفرنسيين و الجزائريين. و يؤكد لافاي أن الجيش الفرنسي أنشأ، منذ 1956، وحدة خاصة مكلفة بتطوير و استخدام "أسلحة خاصة"، و هي تسمية تخفي وراءها استخدام غازات سامة مثل CN2D، وهو مزيج سام يجمع بين مركب أرسيني (المعروف بأدامسيت أو DM) و غاز الكلوروأسيتوفينون (CN)، و الذي يعد من أخطر المواد الكيميائية. مما يسبب اختناقات حادة، و آلامًا في العيون و الجهاز التنفسي، و قد يكون قاتلا في الأماكن المغلقة مثل الكهوف.
و في هذا السياق، يؤكد المؤرخ لافاي أن هذه الممارسات لم تكن عشوائية، بل كانت جزءا من عقيدة عسكرية مدروسة، حيث تم اختبارها لعدة أشهر قبل أن تتحول إلى أسلوب ممنهج. و بحسبه، فقد تم إنشاء وحدة سرية أطلق عليها اسم "وحدات الأسلحة الخاصة"، و كان هدفها الرئيسي طرد مقاتلي جيش التحرير الوطني من مخابئهم الجبلية. و من جهتها، توضح المخرجة كلير بييه، في حديثها لوكالة الأنباء الفرنسية، أن العديد من الجرائم التي ارتكبت خلال حرب الجزائر مثل المجازر، و الاغتصاب، و التعذيب، و التهجير القسري، تم التطرق إليها سابقا، إلا أن استخدام الأسلحة الكيميائية ظل في الظل و لم يكشف عنه حتى الآن. و تضيف: "في البداية، بدت لي الفكرة جنونية، فلماذا تم التستر على حقائق بهذه الأهمية طوال هذه السنوات؟".
و يستند الفيلم إلى شهادات مباشرة لجنود فرنسيين و مقاتلين جزائريين، حيث تصور المشاهد اللحظات المروعة التي عاشها الضحايا. ففي أحد المشاهد المؤثرة، يسمع صوت جندي فرنسي يروي تفاصيل تنفيذ هجوم في منطقة الأوراس في ديسمبر 1959، حيث أدت الغازات القاتلة إلى تدمير مقاومة المجاهدين و إحداث أضرار جسيمة في الكهوف الطبيعية التي كانت تشكل ملاذا للمقاومة. أما أرمان كازانوفا، الذي كان يبلغ من العمر 18 عاما آنذاك، فقد لقب بـ"الجرذ" لقدرته على التسلل عبر الأنفاق الضيقة. يقول: "لا زلت أشم رائحة الغاز، رائحة الموت. كان الأمر يستغرق 15 دقيقة فقط لتنتهي الحياة داخل الكهف". كما يسرد أحد الناجين الجزائريين من مجزرة غار بن شطوح، التي شهدت قصفا بالغاز يوم 22 مارس 1959، كيف تسببت العملية في مقتل نحو 150 شخصا، بينهم مدنيون أبرياء.
و فيما يتعلق بحجم هذه العمليات، يشير لافاي إلى أن الجيش الفرنسي نفذ أكثر من 440 هجوما موثقا في مناطق مختلفة، مثل القبائل و الأوراس، بينما تقدر دراسته أن العدد الفعلي قد يكون بين 5,000 و 10,000 هجوم، سواء لاستهداف مقاتلي جيش التحرير مباشرة أو لمنعهم من اتخاذ الكهوف كملاذ آمن. و هذه الأرقام، تؤكد أن الجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي لم تكن مجرد حوادث فردية، بل جزءا من سياسة ممنهجة لإخضاع الشعب الجزائري.
و رغم هذه المعطيات، لم يتمكن الباحثون من تحديد العدد الدقيق للضحايا، خاصة بسبب القيود الصارمة المفروضة على الأرشيف العسكري الفرنسي، الذي لا يزال يخضع للسرية. و يعلق لافاي على هذا الأمر قائلا: "لقد جعلت فرنسا من هذا الملف سرا من أسرار الدولة، و ظل من أكبر التابوهات التي لم يتم كشفها حتى الآن".
كما تجدر الإشارة إلى أن استخدام هذه الأسلحة كان محظورا بموجب بروتوكول جنيف لعام 1925، الذي كانت فرنسا من بين الدول الموقعة عليه. و مع ذلك، تذرعت السلطات الفرنسية بأن ما جرى في الجزائر لم يكن حربا رسمية، بل مجرد "عملية حفظ نظام"، مما أتاح لها التملص من الالتزامات الدولية.
و منذ عام 2020، يطالب المؤرخون و الباحثون برفع السرية عن كافة الوثائق المرتبطة بثورة الجزائر، استنادا إلى قانون الأرشيف الفرنسي الذي ينص على سقوط السرية الدفاعية بعد 50 عاما. و رغم أن مجلس الدولة الفرنسي أقر هذا المبدأ في عام 2021، إلا أن وزارة الجيوش الفرنسية فرضت قيودا جديدة تمنع الوصول إلى العديد من الوثائق، بحجة أنها تتعلق بأسلحة "دمار شامل"، و هو ما وصفه لافاي بـ"مبرر غير منطقي".
وفي ظل التوترات المستمرة بين الجزائر و باريس، يرى لافاي و المخرجة كلير بييه أن هذه الأزمة قد تعيق أي تقدم في هذا الملف. و مع ذلك، يؤكد الباحثون أن كشف الحقيقة لا يهدف إلى إثارة الجدل السياسي، بل إلى تسليط الضوء على وقائع تاريخية لم يكشف عنها بعد.