الإدمان الصامت: كيف تؤثر الشاشات على الصحة النفسية للأطفال؟ حوار مع الأخصائية النفسانية بهية شُقراني

في عصر باتت فيه التكنولوجيا جزءا لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية، لم يعد بوسعنا تجاهل حضور الشاشات في حياة الأطفال. الهواتف الذكية، اللوحات الرقمية، أجهزة التلفاز، و حتى اللوحات الإلكترونية (التابلت)، تحولت إلى أدوات تعليمية و ترفيهية ترافق الطفل منذ سن مبكرة.
غير أن هذا الحضور المتزايد يثير تساؤلات كثيرة حول التأثيرات النفسية الممكنة لهذا "الانغماس الرقمي"، خاصة في ظل تزايد عدد الحالات التي تسجل في العيادات النفسية.
حول هذا الموضوع، أجرينا هذا الحوار مع الأخصائية النفسانية العيادية، بهية شُقراني، و التي تعمل على مرافقة الأطفال المرضى بالقلب ضمن جمعية القلب المفتوح بالمستشفى الجامعي بن زرجب بوهران، و التي تمتلك خبرة ميدانية معتبرة في العمل مع أطفال التوحد، متلازمة داون. كما لها إلمام عميق في التعامل مع اضطرابات القلق والاكتئاب.
تؤكد الأخصائية بهية شُقراني، أن هناك تزايدا مقلقا في عدد الحالات التي تعاني من اضطرابات نفسية بسبب الاستخدام المفرط للتكنولوجيا الرقمية، مثل "ضعف التركيز، اضطرابات النوم، القلق، فرط الحركة أو الخمول، وحتى العدوانية… كلها أعراض صارت تتكرر بشكل متزايد في عياداتنا، ويكون الهاتف أو اللوحة الإلكترونية في الغالب السبب الرئيسي".
في البداية، ما هي أبرز التأثيرات النفسية التي تلاحظينها على الأطفال الذين يعانون من الإفراط في استخدام الأجهزة الإلكترونية؟
الأخصائية بهية شُقراني : "من خلال تجربتي العيادية، لاحظت بشكل متزايد التأثيرات السلبية على الأطفال يفرطون في استخدام الشاشات. من بين الأعراض الأكثر شيوعا التي تظهر بشكل لافت هي ضعف التركيز، تراجع الأداء المدرسي، فرط الحركة أو العكس تماما، الكسل و الخمول.
كما يتم تسجيل نوبات غضب و انفعالات غير متوقعة، خاصة عندما يتم محاولة تقليص وقت استخدام الشاشات.
في العديد من الحالات التي تواصل معي فيها الأباء، ألاحظ ظهور سلوكيات عدوانية لدى الأطفال نتيجة الإفراط في استخدام الأجهزة الإلكترونية، حيث يصبح الطفل في صراع داخلي لفهم مشاعره أو تعبيره عنها. هذه الحالة تؤثر بشكل عميق على تطور الطفل العاطفي و الاجتماعي".
هل هناك علاقة مباشرة بين الإفراط في استخدام الشاشات و ظهور اضطرابات نفسية للأطفال؟
تؤكد الأخصائية شُقراني: "نعم، هناك علاقة مباشرة و واضحة بين الاستخدام المفرط للشاشات و ظهور اضطرابات نفسية متزايدة لدى الأطفال.
الأبحاث العلمية الحديثة تدعم هذا التوجه، حيث أن الاستخدام المفرط للشاشات يؤدي إلى ظهور اضطرابات مثل القلق و الاكتئاب، بالإضافة إلى اضطرابات النوم. عندما لا يكون هناك مراقبة أو ضوابط من قبل الأهل، يتحول استخدام التكنولوجيا إلى نوع من الاعتماد النفسي و السلوكي. يصبح الطفل غير قادر على الاستغناء عن الشاشات أو قضاء وقت دونها حتى في الأنشطة اليومية العادية مثل الطعام أو التفاعل مع الآخرين.
هذا التعلق يمكن أن يشبه الإدمان، حيث تظهر على الأطفال أعراض الانسحاب إذا تم منعهم من استخدام الشاشات، مثل العصبية أو البكاء أو حتى العدوانية. في هذا السياق، نجد أن هذا التعلق الرقمي يؤثر بشكل سلبي على النمو الطبيعي للعلاقات الاجتماعية للأطفال و يحد من قدرتهم على بناء روابط عاطفية حقيقية.
في نظرية بافلوف، يمكننا أن نرى كيف أن المحفزات الرقمية مثل الألوان القوية و الموسيقى المثيرة تتسبب في ارتباط شرطي عند الطفل، حيث يبدأ الدماغ بإفراز الدوبامين بمجرد رؤية الجهاز أو الشاشة، مما يعزز هذا التعلق المرضي".
بالنظر إلى تسارع الرقمنة، كيف يمكن أن يؤثر ذلك على النمو العاطفي و الاجتماعي للأطفال؟
توضح الأخصائية: "من المهم أن نسلط الضوء على تأثير الانغماس المفرط للأطفال في العالم الرقمي. على مستوى النمو العاطفي، يتعرض الأطفال إلى ضعف في تنظيم العواطف بسبب قلة التفاعل البشري المباشر. كما يلاحظ تأخر في التعبير العاطفي لأن الطفل يعتاد على التفاعل مع الشاشات التي لا توفر تغذية راجعة عاطفية حقيقية. هذا النقص في التفاعل العاطفي المباشر قد يؤدي إلى اعتماده على المحتوى الرقمي كمصدر للراحة أو الهروب من مشاعره السلبية، مما يعوق بناء آليات تكيف صحية لدى الطفل".
أما على مستوى النمو الاجتماعي، فإن قلة فرص اللعب الحر و التفاعل الجماعي تؤثر بشكل مباشر على تطور المهارات الاجتماعية، مثل التواصل و التعاون و حل النزاعات. كما أن الانعزال و الانطواء قد يظهران بسبب قضاء وقت طويل أمام الشاشة، مما يحد من فرص بناء علاقات حقيقية.
و تظهر مشكلة أخرى عندما يقوم الطفل بتقليد سلوكيات غير مناسبة تعرضها بعض المحتويات الرقمية، و هو ما قد يؤدي إلى مشاكل في الاندماج الاجتماعي.
في نظرية إيريك إريكسون، نرى أن الطفل في المراحل الأولى من حياته يحتاج لبناء علاقات صحية مع الآخرين من خلال الثقة، المبادرة و تقدير الذات. و لكن الإفراط في استخدام الشاشات يحد من هذه الفرص، و يقلل من بناء الثقة بالنفس و يعزز الانسحاب الاجتماعي".
في رأيك، كيف يمكن الحد من هذه التأثيرات السلبية و توجيه الأطفال بشكل صحيح نحو استخدام الأجهزة التكنولوجية؟
تشير الأخصائية إلى أن "القلق الذي يشعر به الآباء و المعلمون حول ظاهرة الانفصال العاطفي للأطفال بسبب الأجهزة التكنولوجية هو قلق مشروع. و هذا الانفصال يظهر في ضعف التعبير عن المشاعر، نقص التعاطف، و صعوبة بناء علاقات إنسانية متوازنة. "من خلال تجربتي العيادية، أعتقد أنه يجب على الآباء و المعلمين اتباع بعض الخطوات لتوجيه الأطفال نحو استخدام التكنولوجيا بشكل متوازن".
أولا، يجب أن يكونوا قدوة إيجابية للطفل في استخدام الوسائط الرقمية، من خلال تخصيص وقت للتواصل الحقيقي، مثل الحوار و الإصغاء. ثانيا، من الضروري تحديد وقت مخصص لاستخدام الشاشات، كما ينبغي أن يكون هناك أوقات خالية من الأجهزة، خاصة خلال أوقات الوجبات أو قبل النوم. ثالثا، يجب تشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم من خلال الحوار اليومي و طرح أسئلة مفتوحة تساعدهم على تطوير ذكائهم العاطفي. كما يجب تعزيز الأنشطة الاجتماعية و البدنية مثل الرياضة أو المسرح، لأنها تساهم في بناء مهارات التواصل و التفاعل الاجتماعي".
و تقدمت الأخصائية شُقراني في حديثها بنصيحة هامة: "من الضروري أيضا مراقبة نوع المحتوى الذي يشاهده الأطفال على الشاشات و توجيههم نحو محتوى تربوي و آمن. إذا أظهر الطفل انسحابا عاطفيا أو برودا عاطفيا، يجب على الأهل أن يتعاملوا مع هذا الوضع بالاحتواء و الفهم، و أن يعطوه مساحة للتعبير عن مشاعره دون أحكام".
في الختام، تأكد شُقراني على أن الحفاظ على توازن نفسي و عاطفي للأطفال في عصر الشاشات ليس من خلال منع التكنولوجيا، بل من خلال إدماجها بشكل واع و موجه في حياتهم اليومية.